فصل: الآية السادسة والعشرون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الآية السادسة والعشرون:

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيرًا (97)}.
{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيرًا (97)} قيل: المراد بهذه الأرض المدينة، والأولى العموم، اعتبارا بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما هو الحق، فيراد بالأرض كل بقعة من بقاع الأرض تصلح للهجرة إليها، ويراد بالأرض المذكورة في الآية الأولى، كل أرض ينبغي الهجرة منها.

.الآية السابعة والعشرون:

{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)}.
{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ}: هو استثناء من الضمير في مأواهم، وقيل: هو استثناء منقطع لعدم دخول المستضعفين في الموصول، وضميره.
{مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ}: متعلق بمحذوف، أي كائنين منهم.
والمراد بالمستضعفين من الرجال: الزّمنى ونحوهم، والولدان كعياش ابن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام، وإنما ذكر الولدان مع عدم التكليف لهم، لقصد المبالغة في أمر الهجرة، وإيهام أنها تجب لو استطاعها غير المكلف، فكيف من كان مكلفا.
وقيل أراد بالولدان: المراهقين والمماليك.
{لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً}: صفة للمستضعفين، أو الرجال والنساء والولدان، أو حال من الضمير في المستضعفين.
قيل: الحيلة لفظ عام لأنواع أسباب التخلص، أي: لا يجدون حيلة ولا طريقا إلى ذلك.
{ولا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)} وقيل: السبيل سبيل المدينة.
وقد استدل بهذه الآية، على أن الهجرة واجبة على كل من كان بدار الشرك، أو بدار يعمل فيها بمعاصي اللّه جهارا، إذا كان قادرا على الهجرة، ولم يكن من المستضعفين، لما في هذه الآية من العموم، وإن كان السبب خاصا كما تقدم، وظاهرها عدم الفرق بين مكان ومكان، وزمان وزمان.
وقد ورد في الهجرة أحاديث ذكرناها في جواب سؤال عن الهجرة اليوم من أرض الهند فليراجع.
وورد ما يدل على أنه لا هجرة بعد الفتح.
وقد أوضحنا ما هو الحق في شرحنا على بلوغ المرام فليرجع إليه.

.الآية الثامنة والعشرون:

{وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)}.
{وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} شروع في كيفية الصلاة عند الضرورات من السفر، ولقاء العدو، والمطر، والمرض.
وفيه تأكيد لعزيمة المهاجر على الهجرة، وترغيب له فيها، لما فيه من تخفيف المئونة، أي إذا سافرتم أي مسافرة كانت كما يفيده الإطلاق.
{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ}: أي وزر وحرج في {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} فيه دليل على أن القصر ليس بواجب، وإليه ذهب الجمهور.
وذهب الأقلون إلى أنه واجب ومنهم عمر بن عبد العزيز، والكوفيون، والقاضي إسماعيل، وحماد بن أبي سليمان، وهو مروي عن مالك، واستدلوا بحديث عائشة الثابت في الصحيح: «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيدت في الحضر وأقرت في السفر».
ولا يقدح في ذلك مخالفتها لما روت فالعمل على الرواية الثابتة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
ومثله حديث يعلى بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب، قلت: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقد أمن الناس؟ فقال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عن ذلك؟ فقال: «صدقة تصدق اللّه بها عليكم، فاقبلوا صدقته». أخرجه أحمد ومسلم وأهل السنن.
وظاهر قوله: «فاقبلوا صدقته» أن القصر واجب.
{إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}: ظاهر هذا الشرط أن القصر لا يجوز في السفر إلا مع خوف الفتنة من الكافرين لا مع الأمن، ولكنه قد تقرر بالسنة أن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قصر مع الأمن كما عرفت، فالقصر مع الخوف ثابت بالسنة، ومفهوم الشرط لا يقوى على معارضة ما تواتر عنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من القصر مع الأمن.
وقد قيل إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب لأن الغالب على المسلمين إذ ذاك القصر للخوف في الأسفار، ولهذا قال يعلى بن أمية لعمر ما قال كما تقدم.
وفي قراءة أبيّ: {أن تقصروا من الصّلاة أن يفتنكم} بسقوط {إِنْ خِفْتُمْ}، والمعنى على هذه القراءة: كراهة أن يفتنكم الذين كفروا.
وذهب جماعة من أهل العلم، إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدو، فمن كان آمنا فلا قصر له.
وذهب آخرون إلى أن قوله: {إِنْ خِفْتُمْ} ليس متصلا بما قبله وأن الكلام تم عند قوله: {مِنَ الصَّلاةِ}، ثم افتتح فقال: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف.
وذهب قوم إلى أن ذكر الخوف منسوخ بالسنة، وهي حديث عمر الذي قدمنا ذكره، وما ورد في معناه.

.الآية التاسعة والعشرون:

{وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذابًا مُهِينًا (102)}.
{وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ}: هذا خطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ولمن بعده من أهل الأمر، حكمه كما هو معروف في الأصول، ومثله قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] ونحوه.
وإلى هذا ذهب جمهور العلماء وشذّ أبو يوسف وإسماعيل بن عليّة فقالا: لا تصلّى صلاة الخوف بعد النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم! لأن هذا الخطاب خاص برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم. قالا: ولا يلحق غيره به، لما له صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من المزية العليا!.
وهذا مدفوع فقد أمرنا اللّه باتباع رسوله والتأسي به، وقد قال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، والصحابة رضي اللّه عنهم أعرف بمعاني القرآن، وقد صلّوها بعد موته في غير مرة كما هو معروف.
ومعنى {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ}: أردت إقامتها، كقوله: {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، وقوله: {فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98].
{فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}: يعني بعد أن تجعلهم طائفة تقف بإزاء العدو، وطائفة منهم تقوم معك في الصلاة.
{وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} أي الطائفة التي تصلي معه.
وقال ابن عباس: الضمير راجع إلى الطائفة الأولى بإزاء العدو، لأن المصلية لا تحارب. والأول أظهر لأن الطائفة القائمة بإزاء العدو، لابد أن تكون قائمة بأسلحتها، وإنما يحتاج إلى الأمر بذلك، من كان في الصلاة لأنه يظن أن ذلك ممنوع من حال الصلاة، فأمره اللّه بأن يكون آخذا لسلاحه، أي غير واضع له.
وليس المراد الأخذ باليد، بل المراد أن يكونوا حاملين لسلاحهم ليتناولوه من قرب إذا احتاجوا إليه، وليكون ذلك أقطع لرجاء عدوهم من إمكان فرصة فيهم.
وجوّز الزجاج والنحاس أن يكون ذلك أمرا للطائفتين جميعا، لأنه أرهب للعدو.
وقد أوجب أخذ السلاح في هذه الصلاة أهل الظاهر حملا للأمر على الوجوب.
وذهب أبو حنيفة إلى أن المصلين لا يحملون السلاح، وأن ذلك يبطل الصلاة، وهو مدفوع بما في هذه الآية، وبما في الأحاديث الصحيحة كما أوضحنا ذلك، مع بيان كيفيات تلك الصلاة الثابتة في شرحي: الدرر البهية ومسك الختام.
{فَإِذا سَجَدُوا}: أي القائمون في الصلاة، {فَلْيَكُونُوا}، أي الطائفة القائمة بإزاء العدو، {مِنْ وَرائِكُمْ}: من وراء المصلين.
ويحتمل أن يكون المعنى فإذا سجد المصلون معك أتمّوا الركعة تعبيرا بالسجود عن جميع الركعة أو عن جميع الصلاة، فليكونوا من ورائكم، أي: فلينصرفوا بعد الفراغ إلى مقابلة العدو للحراسة.
{وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا}: وهي القائمة في مقابلة العدو والتي لم تصل.
{فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}: على الصفة التي كانت عليها الطائفة الأولى.
{وَلْيَأْخُذُوا} أي هذه الطائفة الأخرى {حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ}: زيادة التوصية للطائفة الأخرى بأخذ الحذر مع أخذ السلاح.
قيل: وجهه أن هذه المرة مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في شغل شاغل، وأما في المرة الأولى فربما يظنونهم قائمين للحرب.
وقيل: لأن العدو لا يؤخر قصده عن هذا الوقت لأنه آخر الصلاة، والسلاح ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب، ولم يبين في الآية الكريمة كم تصلي كل طائفة من الطائفتين.
وقد وردت صلاة الخوف في السنة المطهرة على أنحاء مختلفة، وصفات متعددة، وكلها صحيحة مجزية، من فعل واحدة منها فقد فعل ما أمر به، ومن ذهب من العلماء إلى اختيار صفة دون غيرها، فقد أبعد عن الصواب.
وأوضح هذا الشوكاني في شرحه للمنتقى وغيره.
{وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً}: هذه الجملة متضمنة للعلة التي لأجلها أمرهم اللّه سبحانه بالحذر، وأخذ السلاح، أي ودوا غفلتكم عن أخذ السلاح، وعن الحذر ليصلوا إلى مقصودهم، وينالوا فرصتهم، فيشدون عليكم شدة واحدة.
والأمتعة: ما يتمتع به في الحرب، ومنه الزاد والراحلة.
{وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ}: رخص لهم سبحانه في وضع السلاح إذا نالهم أذى من المطر، وفي حال المرض، لأنه يصعب مع هذين الأمرين حمل السلاح.
{وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذابًا مُهِينًا (102)}: أمر بأخذ الحذر لئلا يأتيهم العدو على غرة وهم غافلون.